هل تعلم أن

ما هو الأنتربول ؟

2007/06/11
إنه العين الساهرة التي لا تنام , وقاهر الأشقياء والمجرمين !
الألعاب الأولمبية في هلسنكي , مباراة كبرى في كرة القدم بين انكلترا وفرنسا , معرض دولي في بروكسل , أو السنة المريمية في روما , هذه مناسبات قلما يفكر الكثيرون في أنها تضخم عمل دوائر الشرطة العالمية . أما الدليل فهو في ملفات الانتربول . ففي كل مرة تجري فيها تنقلات ضخمة من الناس يختلط الكثيرون من رجال السوء بالجماهير , ويندسون بينهم , عابرين الحدود لتحقيق مآربهم الدنيئة . وليس أسهل من السرقة والسلب – سرقة حافظات النقود وجوازات السفر – في مثل هذه الظروف التي يتكدس فيها الناس تكديساً في بلدان غرباء عنها , لا يعرفون شيئاً من عاداتها , ولا يتقنون لغة أهلها .
وفضلاً عن اللصوص والسارقين هناك أشرار آخرون يجتازون الحدود كذلك : القتلة , والمجرمين الهاربون من وجه العدالة ومن دائرة الشرطة الأهلية , ومزيفو النقد , والهاربون المتاجرون بالمجوهرات والمخدرات , والأشقياء بوجه عام , وجميعهم مجرمون يشكلون خطراً كبيراً على السلامة العامة أينما وجدوا . ولولا تعاون دوائر الشرطة في مختلف البلدان لوجد كل واحد منا , نحن المواطنين الآمنين نفسه في يوم من الأيام تحت رحمة هؤلاء المجرمين ومخططاتهم الجهنمية . ومن حسن الطالع أن الأنتربول أوجد لكي يحمينا .
تعود فكرة إنشاء هذه المؤسسة البوليسية الشهيرة اليوم إلى الأمير ألبير دو موناكو الذي دعا سنة 1914 إلى إمارته المؤتمر الدولي الأول للبوليس العدلي . ذلك بأن العمل كان جديداً . فمع مطلع القرن العشرين وزيادة السرعة في المواصلات , ومع ازدياد أهمية المال والعبادة التي أصبحت له في عصرنا المادي هذا , عرف الاجرام الدولي نمواً كبيراً ينذر بالخطر الداهم . ولكن هيهات , فقد كانت سنة 1914 كذلك السنة التي اندلعت فيها شرارة الحرب العالمية الأولى .
وسرعان ما انهمك المؤتمرون والبلدان التي كانوا يمثلون بمشاغل أكثر الحاحاً : مشاغل الحرب ! فلما وضعت هذه أوزارها سنة 1918 أزدادت نسبة الأجرام على اختلاف أنواعه كما هي الحال دائماً في مثل تلك الظروف , وخاصة الأجرام ذو الطابع الدولي . فقد كانت الحدود الجديدة ما تزال غير واضحة , والسكان كانوا عرضة للانتقال بحشود هائلة من مكان إلى آخر . ولم تكن الانقلابات الاجتماعية كلها قد رفعت بعد مستوى البشر . ومن هنا كان مرتع الأشرار والمجرمين خصيباً .
في فيينا , العاصمة السابقة للأمبراطورية النمساوية – المجرية التي تفككت في الحرب , كان هناك عدد هائل من الملفات والبطاقات الخاصة بالمجرمين وأشكالهم ,منظمة دقيقاً ومضبوطة حتى تلك الفترة . حتى أن دوائر الشرطة الأجنبية كانت في كثير من الأحيان وبعضها دوائر قد نظمت حديثاً كانت تطلب معونة الشرطة النمساوية لاقتناء إثر بعض المجرمين . ومن هنا نشأت عادة الرجوع إلى تلك الملفات والبطاقات الجنائية الشخصية , ثم فكرة تزويدها بالتقارير الجديدة التي كان لها منذ ذاك الصفة الدولية بسبب تجزئة أوروبا الوسطى وأوروبا البلقانية آنذاك . وفي سنة 1923 دعا رئيس الشرطة في فيينا إلى عقد مؤتمر ثان من سلطات البوليس في مختلف الدول . وقد أبصرت النور بعد هذا المؤتمر "اللجنة الدولية للبوليس الجنائي" التي انضم إليها على الفور عشرون بلداً .
ولكن هيهات , فالتاريخ ينبغي أن يتابع مجراه المحتوم : فقد حدث أولاً , الأنشلوس , وسقط فيينا والنمسا بأسرها تحت وطأة النازيين . واندلعت نيران نزاع عالمي جديد رهيب , وحريق مستشارية الرايخ ,حيث دمرت بكاملها تقريباً , الملفات البوليسية التي كان هتلر قد نقلها من فيينا على برلين ليسهر عليها هايدرتش . وكان لابد, والحالة هذه ,من البدء من جديد , من الصفر !
وسنة 1946 لبت تسع عشرة دولة دعوة المفتش العام للشرطة البلجيكية ف.أ.لواج . فجرى في المؤتمر تعديل أنظمة اللجنة السابقة " اللجنة الدولية للبوليس الجنائي" , واختيرت باريس لتكون مقراً للمنظمة الجديدة التي عرفت سنة 1955 باسم " المنظمة الدولية للبوليس الجنائي" والتي سرعان ما أطلق عليها اسم " انتربول" وهو الاسم المختصر من أجل غايات لاسلكية .
وفي سنة 1960 انضمت إليها ثلاث وستون دولة .
وهكذا توجد اليوم في باريس المحفوظات و الملفات , والبطاقات والوثائق البوليسية الدولية التي أعيد تنظيمها كلها مجدداً . وإنه لمن الشيق حقاً الاطلاع على كيفية تنظيمها ودقة العمل الذي يبذل في هذا السبيل لتسهيل مهمة مفتشي الأنتربول القديرين .
في أرشيف الأنتربول لوائح أوفهارس "مرتبة على الأبجدية ". بجميع المجرمين الدوليين المعروفين , أو حتى المتهمين . ولما كان من الصعب دائماً التثبيت من الطريقة التي تكتب بها أسماء هؤلاء المجرمين من مختلف الجنسيات بمختلف الأبجديات فقد ارتؤي إيجاد فهرس صوتي للمجرمين . وعلى كل بطاقة تبرز , كذلك الأسماء المتعددة التي يتنكر بها المجرمون اخفاء لحقيقتهم , وقد مهروا في ذلك , وفي تزوير جوازات السفر المناسبة التي تتيح لهم التنقل بسلام دون إثارة الشكوك . وبين المجرمين الذين يعرفون الأنتربول واحد له سبع وأربعين جواز سفر يختلف أحدها عن الآخر بعضها يحمل ألقاباً طنانة رنانة مثل الأمير رومانوف .
ويصنف المجرمون كذلك حسب بصمات أصابعهم التي تصور في أحيان كثيرة بواسطة هذه الدائرة أو تلك من دوائر الشرطة الأهلية . فإذا أخذت بصمات , مثلأً من على الصندوق الحديدي في أحد المصارف الأجنبية فإنها تنقل على الفور إلى باريس لفحصها خشية أن يكون الأمر متعلقاً بعصابة دولية للسرقة . وبصمات الأصابع , كما نعلم جميعاً , لاتخطيْ أبداً ... لكأن الطبيعة زودت كل واحد منا نحن البشر , بتوقيع لا شبيه له , ولا يمكن تزويره حتى أنه من المستحيل تعديله . ونذكر في هذه المناسبة الشقيين الأسبانيين اللذين اعتقدا أن بوسعهما تضليل دوائر الشرطة إذا ما أحرقا أصابعهما فنجحا في إزالة بعض ما يميز البصمات , وعجزا عن "تدمير " سائر المميزات التي لا يمكن أن تحطئ في الدلالة عليهما .
ولكن , لما كان كل مجرم لا يوقع دائماً بأطراف أصابعه كل جريمة يرتكبها , فقد قضت الحاجة بإيجاد وسيلة أخرى للكشف عن هويته , وهي : أو صافه , مثلاً . ويعرف هذا التصنيف بالتصنيف الجسماني . فلو أن المجرم لجأ إلى جراحة التجميل , أو تنكر بزي امرأة ووضع على رأسه لمة مستعارة (بيروك ) أو حتى حاول أن يبدل هيئته بحلق شعر رأسه أو العكس , باطلاق لحيته وشاربه , فإنه سيجد صعوبة كبرى في الافلات من يقظة الأنتربول . ذلك بأنه قي كل وجه بشري سبع نقاط ثابتة لا يمكن بحال من الأحوال تبديلها . واعلموا أن في الأذن وحدها 37"منطقة "من مناطق تحديد الشخصية البشرية ! ومن هنا يتوصل المفتشون بسرعة إلى تحديد الأنواع البشرية , وتصنيف المجرمين حسب مميزاتهم الجسدية : شكل الجمجمة , انخفاض الأذنين , شكل الذقن إلخ .. أما أبلغ هذه المميزات فهو البروفيل ,"الصورة الجانبية للوجه " وبخاصة البروفيل الأيمن , لأن فيه ستة مناطق لتحديد الهوية . وهكذا ينتهي المفتش إلى إهمال ما يلفت انتباه الشخص العادي من مميزات كالنظر ولون العينين , والشعر أو الشفتين , وحتى العمر , ويحرص كل همه واهتمامه بالتركيب الأساسي للوجه .
ولرب متسائل عن الفرق بين الأنتربول ودوائر الشرطة في مختلف البلدان . أما الجواب فهوأن الأنتربول لا يهتم إلا بالمجرمين الدوليين والمجرم الدولي هو كل امرئ تتعلق جرائمه بثلاث بلدان , على الأقل ولكن ليس ضرورياً أن يكون قد أقام أو وضع قدميه في البلادان الثلاثة . ذلك بأن مزيف النقد الذي يصنع الدولارات الأميركية في مخبأه في جزيرة صقلية ليس بحاجة إلى مغادرة إيطالية لكي يصبح من اهتمام الأنتربول واختصاصه . فدولاراته الزائفة ستجتاز حتماً الحدود , وبالتالي ستعبر الولايات المتحدة الأميركية أنه قد خرق قوانينها . ومثله تاجر المخدرات الذي يعمل في مرسيليا فهو سيحال تصريف بضاعته في مختلف العواصم العالمية . وكذلك مهرب الألماس الذي يستقل الطائرة في لندن أو امستردام يكون له طبعاً عملاء في العديد من بقاع الكرة الأرضية . ومن هنا ليس من المفروض أن يرتكب هؤلاء المجرمون جريمة حيث يكونون لكي يلقي القبض عليهم أو يراقبوا . ويكفي أن تطالب بهم دولة الأعضاء في الأنتربول لكي تتم الإجراءات الضرورية المناسبة .
أما فيما يتعلق بالقتلة والسفاكين فيكفي أن تطالب بهم دولتان لا ثلاث !
والأنتربول مجهز بكل الوسائل التي تسهل مهمته : شبكة تعاون بوليسية تغطي العالم بأسره , شبكة راديو _ كهربائية دولية للمواصلات اللاسلكية لها موجاتها الخاصة . فالراديو أسرع من الطائرات النفاثة وتنقل معلوماته بسرعة البرق إلى رجال الشرطة الذين يمكن أن يهتموا بالمعلومات المذاعة .
وصحيح أن هناك مجرمين يبقون بعيدين عن الشبهات , كما أن هناك مجرمين جدداً يدخلون مملكة الإجرام كل يوم . وهؤلاء لم يصنفوا بعد , وليس هناك فهارس تنظمهم . ولكن المسألة ليست إلا مسألة وقت . فأنهم لن يلبثو في يوم من الأيام أن يقعدوا في قبضة العدالة , فتوضع أيديهم بالأصفاد , وتسجيل أشكالهم وأوصافهم وهوياتهم – الحقيقة منها والزائفة – وتضاف أسمائهم إلى بطاقات الأنتربول البالغة نصف بطاقة (احصاء سنة 1960) .
وتجد الإشارة إلى أن الأنتربول مهما تكن البلاد التي يقوم فيها بتحقيقها يحترم مبدأ لم يخرق حرمته أبداً وهو عدم التدخل بالجرائم السياسة حتى لو استتعبت هذه الجرائم العادية . فهو يود أن يبقى محايداً , وعادلاً , كما يود كذلك , أن يكون بخاصة منظمة للوقاية من الجرائم بدلاً من أداة زجر وقمع . إنه الخفير الذي يسهر على حدودنا وحواجزنا لكن لا يتاح للأشقياء أن يختلفوا بعد مغادرتهم بلدانهم بين ظهرانينا , أو يحصلوا الحصانة التي تغطي جرائمهم . والأنتربول أخيراً يحمينا من الرياح السيئة التي تهب في كل بقاع الأرض , وفي مختلف الجهات , عندما تسمى هذه الرياح جرائم الحق العام .