شكراً ، وتختنق الحـروف علـى فمـي فــتــعــود فـــــــي الـحــلــقــوم مـــثــــل الـعــلــقــمِ |
إنْ جـــئــــتُ أكــتــمــهــا أمــــــــوتُ بــســمِّــهــا أو جـئــتُ أطلـقـهـا تَــشُــبُّ عــلــى فــمــي |
هـــــــــذا أنـــــــــا إمــــــــــا أقــــــــــول فــأصــطـــلـــي أو أنــــــنـــــــي أفــــــنـــــــى بــــــســـــــمِّ تـــكـــتُّــــمــــي |
مـــاذا أقــــول ؟! وقــــد هـمـمــتُ لأرتــقــي بكَ في الإخاء ، فيا لسخفِ توهمي! |
قــــــمــــــم الــــــوفــــــاء قـــصـــدتُـــهــــا مـــتـــوثـــبــــا لـــــكـــــنْ تـــكـــسَّــــر دون ذلـــــــــــك سُـــلَّــــمــــي |
أغــريــتـــنـــي بـــالـــقــــول تـــســـبــــك حـــــرفَــــــه حـــتـــى رأيـــتُـــكَ فـــــــي الـــوفــــاء مُـعَــلِّــمــي |
كالـمـخـلـصـيـن بـــدوـتَ لــــــي مـتـقـمِّــصــا ثــــوب الــوفــا ، يـــــا حـســرتــي وتَـنَــدُّمــي |
وغـــمـــرتــــنــــي بـــــــالـــــــود أيـــــــامـــــــاً فـــــــكــــــــم آثـــرتَـــنـــي فــــــــــي مـــــشـــــربٍ أو مَـــطْـــعَــــمِ |
لله درك مــــــــــــــــــــن فــــــــــــــــــــؤادٍ مــــــــــاكـــــــــــرٍ! مــازلـــتَ بـــــي حـــتـــى جـعـلــتُــكَ تـــوأمـــي |
مـــــاذا تــريـــد ؟! ولـــســـتُ أنـــكـــر أنـــنـــي أجـريـتُ حـبـكَ يــا صـديـقـي فـــي دمـــي |
ومضـيـتُ لا أخـشـى الـوقــوعَ لأنَّ لـــي خـلا إذا مـا طـحـتُ يمـسـك معصـمـي |
حـــــتــــــى تَــكَـــشَـــفَّـــتْ الـــقــــلــــوبُ عـــشــــيَّــــةً فــــــإذا بـقـلــبــكَ فــــــي الــتــخـــاذل يــرتــمـــي |
شــــكــــراً جــــزيــــلاً ، والــقـــلـــوب مــــعــــادنٌ فــانــظـــر إلـــــــى أي الــمــعـــادن تــنــتــمــي |
|
20 / 12 / 1431
قراءة للشاعر والناقد الأردني الأستاذ / عبد الرحيم محمود
الشاعر حامد أبو طلعة الشاعر السعودي الذكي الماهر في جعل الحصى حجارة كريمة ، وصقل الرمال لتصبح لؤلؤا ثمينا ، المجدد المبتكر ، ندخل لمكنونات نفسه عبر نصه : شكرا جزيلا .
هناك زوايا كثيرة نستطيع منها الولوج للنص أهمها :
1- العامل اللغوي .
2- العامل النفسي .
3- العامل الاجتماعي
4- العامل الذهني
وهذه القصيدة تغريني بالدخول لها من زاوية العامل الذهني الذي دفع الشاعر للكتابة هكذا ، وكيف تحضرت قواه الذهنية مجتمعة للكتابة على تلك الصورة لا غير ، يقول العلامة سلامة موسى أن الشعراء لا يكتبون من عقلهم الواعي ، ولذا فهو ينصح الكتاب والشعراء تحديدا أن يضعوا الفكرة داخل ذهنهم ليسربها العقل الواعي للعقل الباطن ليقوم ذلك العقل المتصف بالخيال والتحليق والقدرة الفنية على خلق الصور وخلط الألوان ، ثم يكتبون عندما يلح عليهم العقل الباطن ويجعل أصابعهم تجري بالحروف المنزلقة عبره على الورق .
لذا علينا إن أردنا الدخول لذهن الشاعر أن نتخيل حالة الشاعر الذهانية - وبالمناسبة غالبية الشعراء لا بل جلهم ذهانيون - لنرى كيف تدافعت الكلمات .
الشاعر في بيته الأول لا بل في كلمته الأولى يتوقف متحسرا وهو يرى ما قوبل به من صديقه أو صديقته ربما لأن الشاعر سعودي يحكمه الموروث الاجتماعي ويقيد حروفه ويجعل عقله الواعي يضبط العقل الباطن المتمرد ويلجمه بلجام الموروث الاجتماعي ، فيقول متحسرا شاعرا بعظيم الخيبة ممن يوجه له كلماته : شكرا ، ويقف حائرا ، كيف سيكمل الخطاب مع ذلك الذي خيب أمله وأحبط نفسه بتصرفاته ، فيصف حالته ، ويقول :
شكراً ، وتختنق الحروف على فمي=فتعود في الحلقوم مثل العلقمِ
حالة عجيبة من الشد والجذب !!
تختنق الحروق ، صورة ذهنية شديدة الوقع على النفس هو يختنق معها ، لأنها مع اختناقها تخنق الشاعر ذاته فيتحشرج بها ، لا يستطيع إخراج حروفه ، ويبتلعها فتصبغ مرارتها حياته وشعوره ، يحس بشد عجيب على رقبته وهو مشدود بين أن يقول أو يبتلع حروفه !!
يضيف الشاعر واصفا حالته :
إنْ جئتُ أكتمها أموتُ بسمِّها=أو جئتُ أطلقها تَشُبُّ على فمي
هذا أنا إما أقول فأصطلي=أو أنني أُفنى بسمِّ تكتُّمي
حروف مسمومة هي إذن يريد أن يرميها بوجه مخاطبه ، إن ابتلعها مات وأن قالها أحرقت فمه ، تلك حالة عصيبة يواجهها الشاعر ، تمزق داخله ، وتجعله يحس بالاختناق الذهني ، والتصادم الداخلي بين إراداته ، وتطحنه بين أضراسها حالة الشد والشد المعاكس ، وهو يتلوى بين الفعل ورد الفعل !!
ونراه يكرر الفم والسم والاصطلاء والكتم والبوح مباشرة أو غير مباشرة ليرسم صورة تطاحن قواه الداخلية وصراعها وانعكاس صراعها على كليته وجزئيات إحساساته .
ثم تنزاح الستارة ويقرر البوح ويغلب حالة الاحتراق على الموت سما ، فيقول :
ماذا أقول ؟! وقد هممتُ لأرتقي=بكَ في الإخاء ، فيا لسخفِ توهمي!
قمم الوفاء قصدتُها متوثبا=لكنْ تكسَّر دون ذلك سُلَّمي
أغريتني بالقول تسبك حرفَه=حتى رأيتُكَ في الوفاء مُعَلِّمي
كالمخلصين بدوت َ لي متقمِّصا=ثوب الوفا ، يا حسرتي وتَنَدُّمي
وغمرتني بالود أياماً فكم=آثرتَني في مشربٍ أو مَطْعَمِ
لله درك من فؤادٍ ماكرٍ!=مازلتَ بي حتى جعلتُكَ توأمي
ماذا تريد ؟! ولستُ أنكر أنني=أجريتُ حبكَ يا صديقي في دمي
ومضيتُ لا أخشى الوقوعَ لأنَّ لي=خلا إذا ما طحتُ يمسك معصمي
حتى تَكَشَفَّتْ القلوبُ عشيَّةً=فإذا بقلبكَ في التخاذل يرتمي
شكراً جزيلاً ، والقلوب معادنٌ=فانظر إلى أي المعادن تنتمي
مصورا ما كان فعله وما قابله من يخاطب برد فعله ، ليبرز ثعلبية نفس مخاطبه ومكره وقدرته على التسرب داخل الشاعر لتكون كارثة انكشاف أمره مروعة وتكون السقطة الذهنية مدوية ، ويصف حالة الإحباط ، والخيبة والندم والحسرة .
هذه القصيدة تمثل حالة الذهنية المتصارعة في داخل الشاعر ، خلقت حالة غضب شديد جعلت حروفه تنساب بلا إرادة من سن قلمه مدادا ليروي بها روحنا التي تحس كل يوم خيبة الأمل في المقربين ، وعند الاختبار تنهار قصور الرمال فوق رؤوسنا لنذوق مرارة انكشاف الوهم ، ووجدان ما توهمناه ماء سرابا لا يبل صدى ولا يروي غليلا ، لكنه يملأ القلوب يأسا وحسرة ومرارة .
شكرا لك شاعرنا الكريم .